غول المجاعة يهدد الدول الفقيرة
شؤون سياسية
الثلاثاء 9/5/2006
بقلم الدكتور: إحسان هندي * لم أعد أذكر اسم ذلك الكاتب الغربي المعاصر الذي قال مامعناه:(من المفارقات العجيبة أن أغلب رجال الأعمال في أميركا وأوروبا تكون أولى همومهم حين يستيقظون كل صباح هي إيجاد الطريقة التي ينقصون بها من وزنهم, بينما نجد أول هموم أغلب السكان في آسيا وأفريقيا كل صباح تنصب على كيفية تأمين لقمة العيش لهم ولأطفالهم لذلك اليوم فقط)!
ولقد أدرك هذه الحقيقة واحد من علمائنا العرب المسلمين قبل تسعة قرون حين قسم الأمراض إلى ثلاثة أنواع: أمراض تحل بالأغنياء فقط, وأمراض لا تحل إلا بالفقراء, وأمراض مشتركة يمكن أن تحل بأفراد الطائفتين معاً!
وهذا تقسيم صحيح تماماً, فمرض مثل داء النقرس(داء الملوك) لا يصيب إلا الأغنياء بسبب إفراطهم في تناول اللحوم وقلة حركتهم, بينما أمراض سوء التغذية والأنيميا(فقر الدم) لا تصيب إلا الفقراء طبعاً!
ومعنى هذا أن خطر المجاعة الذي بدأ يهدد بعض بلدان العالم, منذ أوائل السبعينات حتى اليوم, ليس مرده نقصاً في الإنتاج الزراعي العالمي فحسب, بل هو ناجم أيضاً عن خلل في توزيع هذا الإنتاج أيضاً.
وتأسيساً على ذلك فإن حل مشكلة المجاعة في عالمنا المعاصر لا يمكن أن يكون حلاً اقتصادياً محضاً, بل يجب أخذ المعطيات السياسية والاجتماعية بعين الاعتبار أيضاً!
وقبل الاسترسال في تحليل هذه الظاهرة وتبيان مدى خطورتها دعونا نستعرض بعض الأرقام الإحصائية التي لها دلالتها في هذا السياق, وهي أرقام مستقاة جميعاً من تقارير منظمات دولية مختصة مثل(منظمة التغذية والزراعة)و(منظمة الصحة العالمية) و(مكتب العمل الدولي)...
تقول لنا هذه الأرقام إن العالم يسكنه اليوم 6,4 مليار نسمة ثلاثة أرباعهم في الدول النامية, أو بالأحرى (السائرة في طريق النمو), ومن أصل هؤلاء الأخيرين ربعهم(أي مليار نسمة ونيف) يعانون من المجاعة, أي لا يتوفر لهم الحد الأدنى من النصاب الغذائي اللازم لمعيشة الكائن الإنساني, ما يوقعهم فريسة للأمراض. وإذا شئنا أرقاماً أدق نقول إنه هناك 22% من سكان شرقي آسيا, و11% من سكان بلدان الشرق الأوسط, و28% من سكان أفريقيا يعانون من المجاعة, أو هم معرضون لخطر المجاعة!
ويتوطن الجوع على شكل حزام عرضاني يزنر العالم من إندونيسيا وكامبوديا وتايلاند وسريلانكا في آسيا, إلى الصومال والحبشة وأفريقيا الوسطى ومالي والنيجر في أفريقيا, ثم إلى بعض المناطق في أميركا الجنوبية وبعض جزر المحيط الهادي,ولهذا يسمى بعض الباحثين الخط الوهمي الذي يصل بين البلدان المذكورة باسم (حزام الجوع)!
وينبغي لنا هنا أن نذكر بأن الجوع جوعان: جوع قاتل يؤدي إلى الموت, وذلك حين لا يتوفر للإنسان الحد الأدنى من الضرورات الغذائية, وجوع غير قاتل ويؤدي إلى الأمراض الناجمة عن سوء التغذية مثل فقر الدم, السل, العمى, الوهن العضلي والعصبي.. الخ.
وإجمالاً يمكن القول إن (الجوع القاتل) لا يوجد إلا في الدول التي تمتد على (حزام الجوع), وعددها حوالى أربعين دولة(أي خمس إجمالي دول العالم), بينما لا تعاني الدول الأخرى إلا من (الجوع غير القاتل), الذي ينصب على نفر من مواطنيها الفقراء فقط!
ولأخذ فكرة عن مقدار بطش الجوع القاتل في عالمنا المعاصر يكفي أن نعرف أنه أدى إلى هلاك 140 مليون إنسان منذ أوائل السبعينات حتى اليوم, والفئة العظمى من هؤلاء هم الأطفال لأنهم الشريحة الأقل مقاومة للجوع والأمراض الناجمة عنه, ومن أصل هؤلاء 65مليون طفل من دول العالم الثالث حصراً.
وفي عام 1979 واخترنا هذا العام لأنه العام الدولي للطفل- كان عدد المواليد في جميع أنحاء العالم 122 مليوناً مات منهم بسبب الجوع أو سوء التغذية في ذاك العام نفسه 12 مليون طفل, أي أنه من أصل كل عشرة أطفال يولدون يموت واحد منهم بسبب الجوع حصراً, والمحزن في الأمر أنه كان يمكننا إنقاذه!
أما الجوع غير القاتل فلا يؤثر على الحاضر وإنما على المستقبل حيث إنه يؤدي للإصابة بالأمراض والموت البطيء, ولذلك لا غرابة أن نجد أن معدل الأعمار في البلدان النامية لا يتجاوز ثلثي متوسط عمر الإنسان في البلدان المتقدمة!
ويقدر (مكتب العمل الدولي B.I.T) أن هناك 780 مليون إنسان لا يحصلون على كفايتهم اليومية من الأغذية ( أي أنهم يعانون من الجوع غير القاتل), وأن هناك250,000 طفل يصابون بالعمى سنوياً بسبب نقص الفيتامين(A) في تغذيتهم, هذا إذا استثنينا الكساح والأمراض الأخرى الناجمة عن سوء التغذية!
إن هذه الأرقام تثبت لنا بصورة لا يرقى إليها أي شك أن هناك خطر مجاعة يهدد ربع العالم حالياً, ويمكن أن يمتد إلى البقية الباقية منه مع زيادة عدد السكان في جانب, وشح المياه وازدياد التصحر وتضاؤل المردود الزراعي في جانب آخر, ولهذا يجب علينا أن نهتم بما يسمى اليوم(الأمن الغذائي) بالدرجة نفسها التي نهتم بها بالأمن الحربي أو بالأمن السياسي.
وهناك سؤال يفرض نفسه في هذا المجال وهو التالي:
هل خطر المجاعة الذي يهدد العالم ناجم عن (مشكلة إنتاج) أم (مشكلة توزيع) أم عن المشكلتين معاً? وبقول آخر هل هذا الخطر ناجم حصراً عن اختلال التوازن بين زيادة عدد السكان من جهة وتناقص المحصول الزراعي من جهة ثانية(وهو الرأي الذي نادى به الراهب مالتوس قبل قرنين ونيف من الزمن), أم أنها مشكلة ذات جوانب سياسية واجتماعية أيضاً?
الحقيقة أنه ليس من السهل إعطاء جواب واضح على هذا السؤال, إذ مما لا جدال فيه أن مقدار الإنتاج الغذائي العالمي قد عرف تراجعاً ملحوظاً منذ أوائل السبعينات حتى اليوم بسبب ظاهرتي التصحر وهجرة أهالي الريف إلى المدن.
وإذا أخذنا الدول العربية كمثال نجد أن العجز العربي في إنتاج حبوب الأكل قد ارتفع من 10 ملايين طن عام ,1975 إلى 15مليون طن عام ,1980 ثم إلى 30 مليون طن عام .2000 ودون حاجة إلى التسمية الصريحة فإن خمس دول عربية كانت تصدر الحبوب الغذائية قبل نصف قرن أصبحت تستورد هذه الحبوب اليوم!
هذا من جهة, ولكن من جهة ثانية فإن خطر المجاعة ليس ناجماً عن نقص في الإنتاج الزراعي العالمي فحسب, بل هو ناجم عن خلل في التوزيع أيضاً, وإلا فكيف نفسر وجود فائض غذائي عالمي بعض السنوات في مكان ما من العالم مع وجود مكان آخر يموت فيه الآلاف جوعاً?!
ولا أدل على خلل التوزيع هذا من أن البلدان النامية أو السائرة في طريق النمو, التي يبلغ عدد سكانها 76% من جملة سكان العالم, لا تنتج إلا حوالى 35% من مجموع الإنتاج الغذائي العالمي, بينما تنتج البلدان المتقدمة- وعددها ربع سكان العالم فقط- بقية ال65% من الإنتاج الغذائى العالمي, أي أن ربع سكان العالم ينتجون الثلث وثلاثة أرباعه ينتجون الثلث الباقي فقط.
وأي منا لا يشعر بالأسى ويعتصر قلبه حين يسمع واحداً من زعماء إحدى الدول الأفريقية التي تعاني من جوع مزمن يقترح على زعماء الدول الغنية في أوروبا وأميركا إيقاف إطعام العشرين مليون كلب التي يربيها مواطنو هذه الدول, في سبيل تقديم طعامها لإنقاذ الأطفال الجائعين في بلدان أفريقيا. ومن المضحك المبكي أن(جمعيات الرفق بالحيوان) في أوروبا وأميركا احتجت على هذا الاقتراح, واتهمت صاحبه بالبربرية والوحشية, وبهذا أثبتت أن الرفق بالحيوان أهم لديها من الرفق بالإنسان!
ولماذا الاضطرار إلى (السطو) على طعام الحيوانات? فلقد جاء في البيان الصادر عن (معهد السلام العالمي) في استوكهولم أنه إذا صرفت الدول العشر الأغنى في العالم 1% من ميزانية تسلحها كإعانات للدول الفقيرة سنوياً فلن يتبقى هناك جوع يهدد الأطفال في الدول النامية.
ويزيد الأمر سوءاً ما يسمى (سياسة تصدير الحروب), إذ إن الدول الغنية هي دول صناعية في الوقت نفسه, لديها العديد من مصانع الأسلحة, وهذه المصانع ليس من الممكن تحويلها إلى مصانع غذائىة, لذا لا بد لها أن تتابع عملها في إنتاج الأسلحة علماً بأن دولها لم تعد بحاجة إلى هذا النوع من الأسلحة التي بقي لها سوق وحيدة لتصريفها وهو بلدان العالم الثالث.
ولإقناع هذه البلدان بالحصول على السلاح فإن مصالح المخابرات في الدول الكبرى تعمل على خلق(بؤر توتر) تشعر البلدان النامية بدوام الحاجة للتسلح, وبهذا تدفع ثمناً للسلاح مما كان يجب أن تدفعه كثمن لغذاء مواطنيها?
ونتيجة لهذه (اللعبة القذرة) نجد أن الحروب العالمية, بين البلدان الغنية والصناعية القوية قد زالت, وحل محلها نوع من (المنازعات المسلحة) المحلية, وأحياناً(الحروب الأهلية) لكي تظل تجارة السلاح رائجة وعجلة (معامل التسليح) دائرة بلا توقف?
وبالرغم من أن الدول الأفريقية قد اتفقت على (مبدأ مقدس) منذ مؤتمر الوحدة الأفريقية عام ,1961 وهو مبدأ احترام الحدود الموروثة عن زمن الاستعمار, فإنه يندر وجود دولتين أفريقيتين لا يوجد بينهما نزاع حدودي, وإذا وجدت مثل هاتين الدولتين مؤقتاً فلا بد من خلق حرب أهلية أو ثورة على الحكم في واحدة منهما, أو في الاثنين معاً, لتظل الدولتان بحاجة إلى الممول, وإلى من يمدهما بالسلاح مقابل الاستيلاء على مالديهما من مواد أولية (اليورانيوم, النحاس, البن, الكاكاو, النرجيل....).
وبمناسبة ذكر هذه المواد الأولية, فإن الغريب في الأمر أن تجارتها في يد الشركات الغربية الكبرى, وأن أسعارها تتدنى بدلاً من أن ترتفع!
وأخيراً فإننا لا نريد إنهاء هذا المقال بالروح التشاؤمية التي تتركها بعض فقراته, ولهذا نذكر بأن مؤتمر بوخارست, الذي تم عقده في عام 1974 قد أثبت أن الأراضي الزراعية والثروات الحيوانية والمنتوجات الغذائية التي يمكن الحصول عليها من أراضي العالم وبحاره تكفي-إذا أحسن توزيعها- لإطعام 76 مليار إنسان, أي عشرة أضعاف سكان العالم اليوم على الأقل! ومعنى هذا أننا, بقليل من الجهد الفردي وروح ا لتعاون الجماعي, سنبقى بعيدين عن خطر الموت جوعاً عدة قرون أخرى.
ولكن إذا أمنا من الموت جوعاً فهل سنأمن من الموت عطشاً? إن الجواب على هذا السؤال يجب أن يكون أقل تفاؤلاً, وخاصة في بلدان الشرق الأوسط التي نعيش فيها, كما تقول الأبحاث التي ألقيت في مؤتمر مكسيكو الذي عقد خصيصاً لهذا الغرض قبل حوالي شهر, ولكن هذا بحث مختلف قد نكرس له مقالاً آخر.
* باحث في القانون الدولي والتاريخ.
* لـآتنسَ ذكر الله}ْ~ْ
|