فصل [ معرفة المبتلي تخفف من وقع البلاء ]
ليس في الدنيا ولا في الآخرة أطيب عيشاً من العارفين بالله عز وجل , فإن العارف به مستأنس به في خلوته . فإن عمت نعمة علم من أهداها , وإن مرّ مُر حلا مذاقه في فيه , لمعرفته بالمبتلي . وإن سأل فتعوق مقصوده , صار مراده ما جرى به القدر علماً منه بالمصلحة بعد يقينه بالحكمة , وثقته بحسن التدبير .
وصفة العارف أن قلبه مراقب لمعروفه , قائم بين يديه , ناظر بعين اليقين إليه , فقد سرى من بركة معرفته إلى الجوارح ما هذبها
فإن نطقتُ فلم أنطق بغيركم وإن سكتُ فأنتم عقد إضماري
إذا تسلط على العارف أذى أعرض نظره عن السبب , ولم ير سوى المسبب , فهو في أطيب عيش معه . إن سكت , تفكر في إقامة حقه , وإن نطق تكلم بما يرضيه , لا يسكن قلبه زوجه ولا إلى ولد , ولا يتشبث بذيل محبة أحد .
وإنما يعاشر الخلق ببدنه , وروحه عند مالك روحه , فهذا الذي لا هم عليه في الدنيا , ولا غم عنده وقت الرحيل عنها , ولا وحشة له في القبر , ولا خوف عليه يوم المحشر .
فأما من عدم المعرفة فإنه معثر لا يزال يضج من البلاء , لأنه لا يعرف المبتلي , ويستوحش لفقد غرضه لأنه لا يعرف المصلحة , ويستأنس بجنسه لأنه لا معرفة بينه وبين ربه , ويخاف من الرحيل لأنه لا زاد له ولا معرفة بالطريق .
وكم من عالم وزاهد لم يرزقا من المعرفة إلا ما رزقه العامي البطال , وربما زاد عليهما . وكم من عامي رزق منها ما لم يرزقاه مع اجتهادهما . وإنما هي مواهب وأقسام , " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " .