فصل [ العاقل من تأهب بالزاد ليوم المعاد ]
رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً . إن طال الليل فبحديث لا ينفع , أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر . وإن طال النهار فبالنوم . وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق , فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة , وهي تجري بهم , وما عندهم خبر .
ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود , فهم في تعبئة الزاد والتأهب للرحيل . إلا أنهم يتفاوتون , وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد الإقامة .
فالمتيقظون منهم يتطلعون إلى الأخبار بالنافق هناك , فيستكثرون منه فيزيد ربحهم . والغافلون منهم يحملون ما اتفق , وربما خرجوا لا مع خفير .
فكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلساً . فالله الله في مواسم العمر . والبدار قبل الفوات .
واستشهدوا العلم , واستدلوا الحكمة , ونافسوا الزمان , وناقشوا النفوس , واستظهروا بالزاد . فكأن قد حدا الحادي فلم يفهم صوته مِن وقعِ دمع الندم .
فصل [ ذكر الموت يكف عن الهوى ويبعث على الجد ]
من أظرف الأشياء إفاقة المحتظر عند موته , فإنه ينتبه انتباهاً لا يوصف , ويقلق قلقاً لا يحد , ويتلهف على زمانه الماضي . ويود لو ترك كي يتدارك ما فاته , ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت , ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف .
ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى . فالعاقل من مثّل تلك الساعة وعمل بمقتضى ذلك . فإن لم يتهيأ تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته . فإنه يكف كف الهوى , ويبعث على الجد .
فأما من كانت تلك الساعة نصب عينيه , كان كالأسير لها . كما رُوي عن حبيب العجمي أنه كان إذا أصبح قال لامرأته : إذا مت اليوم ففلان يغسلني , وفلان يحملني .
وقال معروف لرجل : صل بنا الظهر , فقال : إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر , فقال : وكأنك تؤمل ان تعيش إلى العصر ,نعوذ بالله من طول الأمل .
وذكر رجل رجلاً بين يديه بغيبة , فجعل معروف يقول له : اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك .