اقتربت مسرعة من السيدة و تناولت ذراعها لتتوكأ علي، إذ كانت تتحرك بصعوبة
بادرتها و أنا أجس نبضها :
ـ ما الذي حصل معك؟
ـ وقعت من أعلى السلم، فأصبت في رأسي...
دقات قلبها ضعيفة... الحال لا تبشر بخير...
تحسست موقع الإصابة التي توقفت عن النزيف.
ثم سارعت أقيس ضغط دمها... الحالة خطرة بالفعل!!
أجلستها على السرير في قاعة الفحوصات ثم انطلقت إلى الطبيبة مسرعة :
ـ دكتورة... حالتها خطرة، لا يجب أن تتحرك، بل يجب أن تخضع إلى عملية في الحال... دقات قلبها ضعيفة جداً و مستوى ضغط الدم ينذر بهبوط حاد... أشك في نزيف داخلي...
قاطعتني الطبيبة في صرامة :
ـ قلت لك خذيها لتقوم بصور الأشعة... و لا تحاولي أن تلعبي دور الطبيبة، فما تعلمته في الكلية يبقى مجرد نظريات مقارنة بالتجربة و المعاينة... لذا أطيعي أوامري!
ـ و لكن...
ـ مرام!
عدت إلى قاعة الفحوصات على مضض. كانت السيدة تشعر بدوار، ساعدتها على الوقوف و أنا أقول محاولة رسم ابتسامة مشجعة على وجهي :
ـ سيكون كل شيء على ما يرام، سنذهب معاً إلى قاعة التصوير بالأشعة، استندي علي... تفضلي من هنا...
وقفت السيدة مترنحة و بدت ذراعها مرتخية و هي تقول :
ـ هل مازال وليد في الخارج؟ طلبت منه أن يحضر لي قطعة من الحلوى لأنني أحس بالضعف...
ـ من هو وليد؟
ـ إنه ابني، و قد أحضرني إلى هنا بالسيا...
لم تتم الجملة، بل انقطع صوتها فجأة و ارتخت ذراعها تماما، لتسقط على الأرض بلا حراك
لم أتمالك نفسي أن صرخت : النجدة...
لم أعرف ما الذي يجب أن أفعله أمام هول المفاجأة...
لبثت المرأة مسجاة أمامي، للحظات قبل أن يهرع "فتى المواقف الصعبة" لنجدتي بعد أن سمع الصرخة المدوية التي أطلقتها...
سارع بحمل السيدة على ذراعيه دون أن ينبس بحرف، تبعته إلى قاعة الفحوصات، حيث قام بمعاينتها بسرعة و خفة قبل أن يهتف في جزع :
ـ نحتاج إلى إنعاش سريع... إنها تموت!!
شهقت في هلع...
كان عدد من الممرضين قد تجمع في القاعة على إثر البلبلة التي حصلت في القسم، و وجدت الطبيبة التي أصرت على قيامها بالصور تقف أمام الباب و قد حاكى و جهها وجوه الموتى من اشتداد الاصفرار...
سارع البعض إلى تجهيز غرفة الإنعاش و صعقات الكهرباء، في حين تابع المنقذ محاولاته اليائسة بالضغط المستمر على صدرها...
ثم ما لبث بعد عدة محاولات أن رفع رأسه في أسى، ليواجه العيون المتسائلة في وجوم :
ـ فات الأوان... لقد فارقت الحياة...
تملكتني نوبة من البكاء الحاد، لم أستطع السيطرة عليها
أول مرة أرى شخصاً يموت أمام عيني...
خاصة أنه كان بإمكاني إنقاذها…
كنت أحس بأسى شديد، و قلبي يتقطع من الحزن…
يا إلهي… اغفر لي يا رب…
جاء رئيس القسم بسرعة و على وجهه تكشيرة مخيفة، و نادى الطبيبة المشرفة، ثم بعد لحظات عاد ليناديني إلى مكتبه!
تبعته في رعب شديد و أنا بالكاد أرى الطريق أمامي بعد أن صارت الرؤية ضبابية بسبب الدموع
مررت على الممرضين الواقفين أمام القاعة و سمعت بعضهم يهمس :
ـ مسكينة، لم يمض على وجودها في المستشفى أيام قليلة و ها قد تسببت في وفاة إحدى المرضى!
لم أستطع أن أرد، بل ارتفع نحيبي ثانية بعد أن أفلحت في السيطرة عليه بصعوبة شديدة
أنا لم أقتلها… لم أقتلها!!
ليس ذنبي، صدقوني!!
جلس رئيس القسم خلف مكتبه و أخذ يلهو بالقلم بين أصابعه في عصبية واضحة، ثم أشار إلى الطبيبة التي كانت تقف إلى جانبي قبالة المكتب…
ـ أخبريني إذن، ما الذي حصل بالضبط؟؟
ابتلعت الطبيبة ريقها بصعوبة و قالت :
ـ جاءت المصابة في حالة يرثى لها، و قد كان من الواضح أن إصابتها في مستوى الرأس بليغة، لذلك طلبت من الطالبة تحت التمرين… مرام، أن تقوم بمعاينتها و جس نبضها… فأكدت لي أن ضغطها طبيعي و نبضها لا يصل إلى مستوى حرج…
اتسعت عيناي من الذهول…
ما الذي تقوله هذه المرأة؟؟
إنه الكذب عينه!!
هممت بأن أفتح فمي لأحتج، لأدافع عن نفسي…
صحيح أنني مبتدئة، لكنني أطبق ما أتعلمه و أبذل قصارى جهدي…
إنها أمانة يا ناس، أمانة يا عالم!! أرواح الناس أمانة بين أيدينا و ليست لعبة!!!
لكن الطبيبة قاطعتني ثانية لتقول :
ـ لا يمكن أن نحاسب طالبة في الصف الثاني على خطأ مماثل… لكن من الضروري أن نضع الطلبة من الآن فصاعداً تحت المراقبة الصارمة، لتجنب أخطاء فظيعة قد تودي بحياة البشر، فأرواح الناس ليست لعبة!!
تملكني إحساس فظيع بالضياع…
أحسست بأنني وحيدة، و مستضعفة، و مظلومة…
يا الله رحمتك!
استندت على الحائط حتى لا أسقط…
لم أسمع بقية ما قيل، بل استيقظت على صوت رئيس القسم الأجش يأمرني بالانصراف…