(( 5 ))
الأمين والغنم
الناس وقود الحياة يكدحون .. يحترقون ليشعلونها ولم يكن محمد صلى الله علية وسلمشاب
خاملاً تتعثر به الحياة .. فيقتات من نسبه .. ويستطعم من شرفه .. لقد كان حياة للحياة
يحمل فأسه لصخورها .. ويشق طريقه بذراع مفتول وجبين مرفوع ..و شباب متجدد
تعاملت معه قريش كلها .. حتى اقتطع منها لقباً طغى على كل أسم هو له ..
ولم يكن ليحصل على ذلك اللقب لو كان قد رضي بالوقوف على أطلال أبائه وأجداده
يذكر من يمر بها ويكتفي ..
لقد دخل عليهم وهم مجتمعون حول الكعبة فقالوا بصوت واحد ( أتاكم الأمين )
الأمين نعم هو اللقب انتزعه من قلوبهم قبل أن يبذلوه له بألسنتهم .. لقد جربوه وخبروه
و الأمانة لا توهب إلا بعد تجارب
وليس لدى محمد الشاب ما يبذله من مال أو سلطه ليرغمهم على قول ذلك لاسيما
هو أصغرهم سناً .. بل وربما كان أفقرهم وأيتمهم
لقد ألجأه الفقر إلى أشقى المهن وأبسطها .. لقد كان يسير طوال النهار خلف الغنم
يرعاها لأهل مكة .. مهنة شاقه تمارس بثمن بخس .. مهنة البسطاء وقادة الأرض
والعظماء
وهل هناك أعظم على وجهة الأرض من نبي ومع ذلك ( ما من نبي إلا ورعى الغنم )
وقد كان الأمين يخالط الشباب ويعيش بينهم .. ويسمع بمغامراتهم في ارتياد كهوف البغاء .. والقصف في الخمارات .. لكنه كان يترفع عما يسيء إلى اسمه و رجولته
ولو كان ذلك مما لا تحرمه أعراف قريش والأمر عنده لا يتعدى دائرة حديث النفس والأماني لا أكثر .. إنه يتحدث عن تلك الأمور التي خطرت عندما كان يمسك بعصا يهش بها على غنمه :
( ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين
كلتاهما عصمني الله تعالى منها , قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلنا
فقلت لصاحبي : أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر فيها كما يسمر الفتيان
فقال : بلى
فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفاً بالغرابيل والمزامير
فقلت : ما هذا ؟
فقيل : تزوج فلان فلانة فجلست أنظر , وضرب الله على أذني فو الله ما أيقضني إلا مس الشمس فرجعت إلا صاحبي فقال :
ما فعلت ؟ فقلت :
ما فعلت شيئاً . ثم أخبرته بالذي رأيت ( ثم لما جاء من ليله أخرى قال لصاحبه أن يبصر غنمه وحدث له مثل ما حدث في الليلة السابقة )
فقال النبي صلى الله علية وسلمبعدها ( والله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء حتى أكرمني الله
بنبوته )
إن أناساً تعلوهم الغرائز وتلوي أعناقهم الشهوات يبذلون الأموال حتى يظفروا بسويعات حمراء وخيمة العواقب .. فهل سيوقفهم صوت دف أو مزمار .. لكن محمد أوقفته حفلة عرس .. وهدهدته حتى نام .. لأنه مهذب أتعبه هموم العمل .. تشققت قدماه من صخور الجبال وأدمتها أشواك الصحاري فأمسى مكدود البال منهك القوى يبحث عن ساعة يتنفس بها فلما مر بذلك الزفاف وجد فيه من اللهو البريء
وكان كأي شاب يبحث عن فتاة تملئ بيته وحياته بالحب والعفاف وتمسح عن جبينه هموماً تقذف بها يوميات مكة المتعبة .. لكنه لم يجد فتاة وجد
خديجه ..