SMS : العقل صفاء النفس والجهل كدرها
• • زَيدُ الخـَير ❤ ذلكَ الصحابيّ هُو "زَيدُ الخيل" كما كانَ يدعُوه الناس في جاهليّتهِ ، و "زيدُ الخير" كما دعاه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعدَ إسلامِه .. لمّا بلغَت أخبار النبيّ عليه الصلاة والسلام سَمْعَ "زيدُ الخيل" ، ووقفَ على شيء مما يَدعو إليه ، أعدّ راحِلتَهُ ودعَا السادة الكبرَاء من قَومهِ إلى زيَارَةِ يثرب ولقاء النبيّ عليه الصلاة والسلام ، فركِبَ معَهُ وَفدٌ كبير من "طَيء" فيهِم زُرّ بن سدُوس ومالكُ بن جُبير وعَامر بن جُوَين ، وغيرهم . فلما بلَغوا المدينة توجّهوا إلى المسجد النبويّ الشريف ، وأناخوا رَكائبهم ببابه . وصادَفَ عندَ دخولهم أن كان الرسول صلوات الله عليه يخطُبُ المسلمين من فَوق المِنبَر ، فراعَهم كلامه وأدهَشهُم تعلّق المسلمينَ به ، وإنصاتهم له وتأثرهم بما يقول . ولما أبصرَهم الرسول عليه الصلاة والسلام ، قال يُخاطبُ المسلمين : " إني خيرٌ لكم من العُزّى ومن كلّ ما تعبدون ... إنّي خيرٌ لكم من الجمَل الأسوَد الذي تعبدونه من دون الله " لقد وقعَ كلام الرسول صلوات الله عليه في نَفس زيد الخيل ومَن معَه مَوقعَين مُختلفَين ، فبعضهم استجاب للحَق وأقبَل عليه ، وبعضهم تولّى عنه واستكبرَ عليهِ .. أما زُرّ بن سدُوس فما كادَ يرى رسول الله صلواتُ الله عليه في موقفهِ الرائع تحفّه القلوبُ المؤمنَة ، وتحوطهُ العيُون الحانيَة حتى دبّ الحسَد في قلبه ، ثم قال لِمَن معَهُ : - إني أرى رجلاً ليَملِكَنّ رِقابَ العرَب ، والله لا أجعَلنّهُ يملِكُ رقبَتي أبداً . ثم توجّه إلى بلاد الشام وحلَقَ رأسَهُ وتنصّر .. أما زَيدٌ والآخرون فقد كان لهُم شأنٌ آخر ، فما أن انتهى الرسول صلوات الله عليه من خطبته حتى وقفَ زيد الخيل بينَ جمُوع المُسلمين - وكانَ من أجمَل الرّجال جمَالاً ، وأتمّهم خِلقَة وأطوَلهُم قامَة - حتّى أنه كانَ يركَبُ الفرَس فتَخِطّ رجلاهُ على الأرْض كمَل لَو كانَ راكباً حماراً .. وقفَ بقامَتهِ المَمشُوقة ، وأطلقَ صَوتَهُ الجَهير وقال : - يا مُحمّد ، أشهَدُ أنّ لا إلهَ إلا الله وأنّكَ رَسُولُ الله . فأقبَل عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وقال له : " مَن أنت؟ " قال : - أنا زَيدُ الخَيل بنُ مُهَلهِل . فقال له رسول الله صلوات الله عليه : " بَل أنتَ زَيدُ الخير ، لا زَيدُ الخيل .. الحمدلله الذي جاءَ بكَ مِن سَهلِك وجبَلَك ، ورقّق قلبكَ للإسلام " ، فعُرف بعدَ ذلك بـ زيد الخير .. ثمّ مضَى بهِ الرسول عليه الصلاة والسلام إلى منزله ومعَه عمر بن الخطاب ولَفيفٌ من الصحابة ، فلمّا بلغوا البيت طرحَ الرسول صلى الله عليه وسلم لـ زَيدٍ مُتكأ ، فعَظُمَ عليه أن يتكئ في حضرَة الرسول صلى الله عليه وسلّم وردّ المُتكأ ، وما زالَ يُعيدُه الرسول صلى الله عليه وسلم له وهُوَ يردّه ثلاثاً . ولمّا استقرّ بهم المجلس قال صلى الله عليه وسلم لـ زَيد الخَير : - " يا زَيد ، ما وُصِفَ لي رجلٌ قط ثُمّ رأيته إلا كان دُونَ ما وُصِفَ به إلا أنت .. " ثم قال له : " كيفَ أصبَحتَ يا زَيد ؟ " قال زَيد : - أصبَحتُ أحبّ الخير وأهلَهُ ومَن يعمَل به ، فإن عَمِلتُ بهِ أيقنتُ بثوابه ، وإن فاتني منه شيء حنَنتُ إليه . فقال عليه الصلاة والسلام : " هذه علامَةُ الله فيمَن يُريد " فقال زَيد : - الحمدلله الذي جعَلني على ما يُريد الله ورسوله .. ثمّ التفتَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال له : أعطني يا رَسول الله ثلاثمائة فَارس ، وأنا كفيل ٌ لك بأن اُغِيرَ بهم على بلاد الرّوم وأنالَ منهم . فأكبرَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم همّتَه هذه ، وقالَ له : " لله دُرّكَ يا زَيد ، أيّ رجل أنت ؟ " .. ثمّ أسلَم مع زَيد جَميعُ مَن صَحِبَه من قومه . ولمّا هَمّ زَيدٌ بالرجُوع هُوَ ومَن معَهُ إلى دِيَارهم في نَجد ، ودّعَه النبيّ صلى الله عليه وسلّم وقال : " أيّ رَجُلٍ هذا ؟ .. كَم سيَكونُ لهُ من الشأنِ لَو سَلِم من وبَاءِ المَدينَة ! " وكانت المدينة المنوّرة آنذاك مَوبوءة بالحُمّى ، فما غن بارحها زَيد الخَير حتى أصابَته ، فقالَ لِمَن معَه : - جَنّبوني بلادَ "قَيسْ" فقد كان بيننا حماساتٌ - حروب - من حماقات الجاهليّة ، ولا والله لا أقاتلُ مسلماً حتّى ألقَى الله عزّ وجَل . تابَعَ زَيدُ الخَير سَيرَه نحوَ دِيَار أهلهِ في نَجد ، على الرّغم من أنّ وَطأةَ الحُمّى كانت تشتدّ علَيهِ ساعةً بعدَ أخرى ، فقد كانَ يتمنّى أن يَلقَى قَومَه ، وأن يَكتُبَ الله لهُم الإسلامَ على يَدَيه . وطَفِقَ يُسابِقُ المنيّة والمنيّة تُسابقُه ، لكنّها ما لَبثَتْ أن سبَقَته ، فلفَظَ أنفاسَه الأخيرَة في بَعضِ طريقِه ، ولَم يكن بين إسلامه ومَوتِه مُتسَع لأن يقعَ في ذَنب - رحمه الله - .. ,‘ • • حَڪيمُ بنُ حَزَام ❤ هل أتاكِ نبأ هذا الصحابيّ ؟! لقد سجّل التاريخ أنّه المَولود الوحيد الذي وُلِدَ داخل الكعبَة المُعظّمة . أما قصة ولادته فخُلاصتها أن أمّه دخلت إلى جَوف الكَعبَة للتفرّج عليها وكانت يومئذ مفتوحة لمناسبة من المناسبات ، وكانت والدته حاملاً به ، ففاجأها المخَاضُ حينها ولم تستطع مُغادرتها ، فجيء لها بنَطع - قطعة من الجـِلد - فوضعَتْ مَولودها عليه ، وكان ذلم المَولود هو حَكِيم بن حَزام بنُ خُوَيلد .. وهو ابن أخ أمّ المؤمنين خديجة بنتُ خُوَيلد رضي الله عنها وأرضاها . نشأ حَكيم بنُ حَزام في أسرة عريقة النّسَب ، عريضة الجَاه ، واسِعَة الثرَاء . وكان إلى ذلك عاقلاً سَرياً فاضلاً ، فسوّده قومه عليهم وأسندوا إليه منصب الرّفادة (أحد مناصب قُرَيش في الجاهليّة ، ويقوم صاحبه بمعاونة المحتاجين والمُنقطعين من الحجّاج) . فكان يُخرج من ماله الخاص ما يُرفد به المُنقطعين من حُجّاج بيت الله الحرام في الجاهليّة .. وقد كان حكيم صديقاً حميماً لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه قبل أنْ يُبعَث ، فهو وإن كان أكبر من النبيّ صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات إلا أنّه كان يألفه ويرتَاح غلى صُحبَته ومُجالسته ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يُبادله وداً بود وصداقة بصداقة . ثمّ جاءت آصِرَة القُربَى فوثّقتْ ما بَينهما من علاقة ، وذلك حين تزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم من عمّته خديجة بنتُ خُوَيلد رضي الله عنها . وقد تعجَبينَ بعد كلّ الذي بسَطناهُ لكِ من علاقة حَكيم بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا عَلِمتِ أنّ حكيماً لَم يُسلِم إلا يَومَ الفتح ، حيث كان قد مضَى على بعثة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ما يزيد على عشرين عاماً .! فقد كان المُظنّون برجل مثل حكيم حبَاه الله ذاك العقل ويسّر له القُربى من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون من أوّل المصدقين بدعوته والمُهتدين بهَديه ، ولكنّها مشيئة الله وما شاء الله كان .. وكما نعجَبُ نحن من تأخّر إسلام حكيم بنُ حَزام ، فقد كان يَعجَبُ هو نفسه من ذلك . فما كاد يدخل الإسلام ويتذوّق حلاوة الإيمان ، حتى جعَل يعضّ بنَانَ الندَم على كلّ لحظة قضَاها من عمُره وهُو مُشركٌ بالله مُكذّب لنبيّه .. وكما عَجبنا نحن من تأخر إسلام حكيم بنُ حَزام وكما كان يعجَبُ هو من نفسه ، فإن النبيّ صلوات الله وسلامه عليه كان يعجَب من رَجُل له مِثلُ حِلم حكيم بن حَزام وفِهمه ، كيفَ يَخفَى عليه الإسلام ! وكان يتمنّى له وللنّفَر الذين هُم على شاكِلَته أن يُبادروا إلى الدخول في دين الله . ففي الليلة التي سبَقَتْ الفَتح قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه : - " إنّ بمكّة لأربعَة نفَرٍ أربأ ْ بهِم عن الشرك ، وأرغَبُ لهُم في الإسلام " قِيل : - ومَن هُم يا رَسُول الله ؟ قال : -" عتّابُ بنُ أُسَيد ، وجُبَير بنُ مُطعِم ، وحَكِيمُ بنُ حَزام ، وسُهَيلُ بن عَمرُو " ومن فَضل الله عليهم أنهم أسلَموا جميعاً .. وحِينَ دخَل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكةَ فاتحاً ، أبَى إلا أن يُكرم حَكيم بن حَزام فأمرَ مُناديه أن يُنادي : " مَن شَهِدَ أنّ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ، وأنّ محمداً عَبدهُ ورَسُوله فهُوَ آمن .. ومَن جلَسَ عندَ الكعبَة فهو آمن .. ومَن دخلَ دار أبي سُفيان فهو آمن .. ومَن دخلَ دارَ حَكيم بن حَزام فهو آمن .. وكانت دار بن حَزام في أسفل مكة ، ودار أبي سفيان في أعلاها . أسلَمَ حكيم بنُ حَزام إسلاماً ملكَ عليه لُبّه ، وآمنَ إيماناً خالطَ دمَه ومازجَ قلبَه . وآلى على نفسِه أن يُكفّر عن كُلّ مَوقفٍ وقفَه في الجاهليّة ، أو نفقَى أنفقَها في عداوَة الرسُول صلى الله عليه وسلم بأمثال أمثالها .. وقد برَّ بقسَمِه .. من ذلك أنه آلَت إلَيه دار الندوة ، وهيَ دار عريقة ذات تاريخ ، ففيها كانت تَعقِد قُرَيش مُؤتمراتها في الجاهليّة ، وفيها اجتمَع سادَتهم وكبَراءهُم ليأتمروا برَسُول الله صلى الله عليه وسلم . فأرادَ حَكيم بن حَزام أن يتخلّص منها ، وكأنّه كان يُريد أن يُسدِلَ ستاراً من النّسيَان على ذلك الماضي البَغيض ، فباعهَا بمائة ألف دِرهَم ، فقال له قائل من فتيَان قُرَيش : - لقد بعتَ مَكرُمَةَ قُرَيش يا عَم . فقال له حَكيم : - هَيهاتَ يا بُنَيّ ، ذهبَت مكارم قُرَيش كُلّها ولَم يَبقَ إلا التقوَى ، وإنّي ما بِعتُها إلا لأشتري بثمَنِها بيتاً في الجنّة .. إنّي أشهِدُكُم أنّني جعَلتُ ثمَنَها في سَبيل اللهِ عزّ وجَل .. وحجّ حَكيم بنُ حَزام بعدَ إسلامِه ، فسَاقَ أمَامه مائة ناقة مُجلّلة بالأثوَاب الزّاهيَة ثُمّ نحرَها جميعاً تقرباً لله . وفي حجّةٍ أخرى وقفَ في عرفات ومعَه مائة من عَبيدِه وقد جعلَ في عنُق كلّ واحدٍ مِنهُم طَوقاً من الفضّة ، نقشَ علَيه : "عُتقَاء للهِ عزّ وجَل عَن حَحكين بنُ حَزام" ، ثمّ أعتقهُم جميعاً . وفي حجّة ثالثة ساقَ أمامَه ألف شَاة ، وأراقَ دمَها كُلّها في "مِنَى" وأطعمَ بلحُومها فقراء المُسلمين تقرباً لله عزّ وجَل ..